فرنسا والناتو- تحالفات عالمية في مهب رياح الشرق الأوسط والانتخابات

لقد أفرزت الانتخابات التشريعية الفرنسية نتائج مفاجئة ومدهشة، ذات تداعيات جمة لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها. وكان الجانب الأكثر أهمية وبروزًا هو ذلك الذي استقطب اهتمام العديد من العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، والتي رأت أن فرنسا نجحت في تجنب السقوط في براثن التيار اليميني المتطرف الموالي لموسكو.
صورة قاتمة
في ظل الصعود المتزايد لليمين المتطرف في مختلف أنحاء أوروبا، وخاصة في فرنسا، نتيجة لتدفق موجات المهاجرين وعجز الحكومات الأوروبية عن السيطرة عليها أو الحد من تدفقها، شكل الخطاب المتطرف والشعبوي الذي يتبناه اليمين عامل جذب قوي لشريحة واسعة من المواطنين الأوروبيين. وعلى الرغم من عدم تمكن حزب مارين لوبان من تحقيق النتائج البرلمانية التي كان يطمح إليها في الجولة الثانية، إلا أنه لا بد من التوقف مليًا أمام حصوله على قاعدة انتخابية هائلة تضم ما يقرب من عشرة ملايين ناخب فرنسي.
ويبدو أن السبب الرئيسي وراء هذا الترقب الغربي لا يقتصر فقط على حجم الدعم الذي قد يحصل عليه المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الشارع الأمريكي، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، ويتعلق بإمكانية تلاقي مصالح أوروبا الغربية مع التوجهات الروسية، وهو ما يراه جزء كبير من قادة العالم، وذلك بالنظر إلى موقف هذا التيار من الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراتها على الساحة الدولية.
ويستند هؤلاء القادة في تحليلهم إلى البرنامج الانتخابي لحزب لوبان اليميني، الذي تضمن أمرين أساسيين: أولهما معارضة مشروع الاتحاد الأوروبي، وثانيهما وقف الدعم المقدم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وهو الأمر الذي قد يفضي، في حال فوز هذه الأحزاب، إلى مناقشة جدوى بقاء فرنسا ضمن حلف شمال الأطلسي.
ومما لا شك فيه أن علاقة التحالف الوطيدة بين فرنسا والولايات المتحدة، والتي تعززت أركانها من خلال العلاقة الشخصية التي تجمع بين إيمانويل ماكرون وجو بايدن، كانت على وشك أن تتعرض لانتكاسة تاريخية فيما لو وصل اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في فرنسا، الأمر الذي كان سيفتح الباب أمام إعادة تشكيل صورة التحالفات الدولية.
من هذا المنطلق، فقد شعر القادة الذين شاركوا في المؤتمر السنوي لحلف الناتو في واشنطن بقدر كبير من الارتياح بعد فوز اليسار الفرنسي والعمال البريطاني، إلا أن دواعي القلق لا تزال حاضرة، وذلك من جهة بسبب استمرار تصاعد موجة اليمين المتطرف في أوروبا، ومن جهة أخرى بسبب الصورة القاتمة التي تلوح في الأفق حيال نتائج الانتخابات الأمريكية، والتي تصب في صالح دونالد ترامب، وهو ما قد يؤثر على طبيعة العلاقات بين واشنطن وحلفائها.
لذا، حرص بايدن على أن تكون كلمته الافتتاحية قوية وحازمة، لأنه يعلم جيدًا هو وفريقه الانتخابي أنه لا يخاطب فقط حلفاءه في الخندق السياسي الواحد، بل يخاطب أيضًا القاعدة الانتخابية الأمريكية بعد الأداء المتذبذب الذي قدمه في المناظرة الأخيرة ضد منافسه ترامب.
إعادة تشكيل النظام العالمي
ولا يمكن إغفال أن الملفين الرئيسيين اللذين يشغلان قادة الناتو هما ملفا الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا. وأصبح الجميع على يقين بأن الحرب في أوكرانيا تمثل منعطفًا حاسمًا في إعادة تشكيل النظام العالمي، بين حلفاء واشنطن من جهة، وحلفاء روسيا ومعها الصين من جهة أخرى. ومن هنا، فإن التحديات التي تواجه حلف الأطلسي باتت تحمل طابعًا وجوديًا ومصيريًا.
لكن الملف الأكثر إلحاحًا بالنسبة لقادة العالم يتمثل في التداعيات الخطيرة لحرب غزة على منطقة الشرق الأوسط، وتأثيرات الحرب الأوكرانية على المنطقة برمتها. وبات من الواضح أن هذا النزاع الدولي المحتدم في قلب القارة الأوروبية قد امتدت شظاياه لتطال منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وهو الأمر الذي استوجب من قادة الناتو حينها إعادة النظر بعمق في كيفية ترجمة هذه الأحداث على مناطق نفوذهم التاريخي.
ومن هنا أتت خطة تجهيز القدرات الرامية إلى نشر 300 ألف جندي في إطار قوة الردع السريع على الجانب الشرقي لأوروبا، أي توجيه رسالة قوة إلى موسكو. وإثر ذلك، ازداد الإنفاق على الصناعات الدفاعية للدول الأعضاء في الحلف، مما يعني اعتماد استراتيجية حربية ببرنامج تصاعدي يحاكي زمن الحروب والمواجهات، وطي صفحة الاستراتيجية السابقة التي كانت تعتمد على تلبية الاحتياجات المطلوبة في زمن السلم.
ولكن الأهم في نتائج قمة هذا العام هو افتتاح مكتب لحلف الناتو في الأردن، وهي خطوة تعتبر الأولى من نوعها. إضافة إلى ذلك، قام الأمين العام لحلف الناتو بزيارة هي الأولى من نوعها إلى دول خليجية في نهاية العام المنصرم، وذلك في ذروة معركة طوفان الأقصى، مما يؤشر إلى المكانة المحورية التي يحتلها الشرق الأوسط في الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو.
وبناءً على ذلك، يمكن فهم الصراعات المحتدمة الدائرة حول الانتخابات الأمريكية، بالتوازي مع الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية، ممثلة في المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية والشركات الاقتصادية الكبرى العاملة في مجال التصنيع العسكري أو الدواء والتكنولوجيا، لإعادة ترشيد ميزانياتها بعد موازنة وزارة الدفاع الأمريكية للعام 2024، والتي بلغت 850 مليار دولار، وسيخصص نحو نصفها لشركات تصنيع السلاح وإنتاجه.
لذلك، يمكن فهم التقلبات المزاجية التي طغت على الانتخابات الفرنسية في جولتها الثانية، بالتزامن مع الصراعات الداخلية الدائرة داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي على خلفية طرح فكرة استبدال بايدن بمرشح آخر يتمتع بحيوية أكبر ويحظى بقبول أوسع لدى الناخب الأمريكي.
وكل ذلك يشير دلالة واضحة إلى أن حالة التعبئة الدولية والمسار التصاعدي للصراع مع روسيا والصين سيشمل كافة ساحات الشرق الأوسط الملتهبة من الأساس. فروسيا كانت قد وسعت نفوذها في اتجاه الساحل الأفريقي بهدف السيطرة بشكل أكبر على جنوب أوروبا، وعملت على الإطباق على الشريان البحري العالمي في قناة السويس من خلال السعي إلى ترسيخ قاعدة بحرية لها على البحر الأحمر، وكانت قد عززت هذا الحضور من خلال قاعدة طرطوس في سوريا والساحل الليبي.
الانفتاح على الشرق والغرب
ومن هذا المنطلق تنظر الإدارة الأمريكية إلى المعارك المفتوحة في المنطقة، وفي طليعتها حرب غزة. ومن هذه الزاوية أيضًا تتعامل مع الصراعات القائمة، سواء كانت سياسية أو دينية أو عقائدية. وعليه، فإنه لا بد من إدراك الأهمية الاستراتيجية لكل من الساحلين اللبناني والسوري، على الرغم من حالة تجميد الحلول في كلا البلدين.
ومن هنا، فإن جميع الدول المعنية قامت بإعادة قراءة نتائج الانتخابات الإيرانية وتجلياتها الداخلية والخارجية، لكن ثمة إشارة بالغة الأهمية أرسلها مرشد الثورة علي خامنئي من خلال وصول مسعود بزشكيان إلى سدة الرئاسة، على اعتبار أن جميع التفسيرات التي أعطيت لفوزه تعتبر هزيمة لتيار المرشد.
بيد أن الحقيقة هي أن الرئيس المنتخب يعتبر أحد أركان النظام القائم وابن الثورة الإسلامية، وليس ثورة على الثورة كما قد يتوهم البعض، بل على العكس تمامًا، فإن المرشد الذي مهد الطريق أمام وصول بزشكيان إلى الرئاسة كان يهدف إلى معالجة الفجوة المتزايدة التي تفصل بين السلطة وشرائح واسعة من المجتمع الإيراني، وخاصة الشباب. فلطالما كان الخطاب الرسمي الإيراني يركز على إبراز نسب المشاركة والإقبال الكبير على الانتخابات كدليل قاطع على شرعية النظام القائم، وهذا التحدي يعتبر امتدادًا للتداعيات الناتجة عن الحراك الداخلي الذي شهدته إيران منذ عدة أشهر.
وتتجلى أبرز النقاط التي تناولها بزشكيان في خطابه في التزامه بإزالة العقوبات المفروضة على إيران من خلال العودة إلى الاتفاق النووي، أي باستعادة المرحلة التي شهدها عهد الرئيس حسن روحاني والتي تم خلالها توقيع الاتفاق. أما النقطة الثانية فتتمثل في تعديل التوجهات المتبعة في السياسة الخارجية، وذلك عبر الانفتاح على كل من الشرق والغرب على حد سواء، وهو ما يتناقض مع السياسة التي انتهجتها إيران إبان فترة حكم إبراهيم رئيسي، والتي ارتكزت بشكل أساسي على التوجه نحو روسيا والصين وما بينهما.
ويسعى الرئيس المنتخب إلى ترسيخ قناعة مفادها أن بلاده لن تنحاز إلى طرف دون الآخر، خاصة وأن طهران شعرت منذ معركة طوفان الأقصى بأنها تركت وحيدة مع أذرعها لمواجهة مصيرها المحتوم في ظل المواقف الضبابية التي اتخذتها كل من الصين وروسيا، ولا سيما مع استهداف بعض قادتها في مناطق متفرقة في كل من سوريا والعراق. وقد اتخذ هذا الأمر منحى أكثر تعقيدًا في ظل ما يتردد عن وجود تقارب بين النظام السوري وتركيا برعاية روسية، على الرغم من كل المعوقات التي تعترض طريقه، إضافة إلى أن المحور الإيراني ليس راضيًا عن موقف نظام الأسد وأدائه في مواجهة التحديات التي فرضتها الحرب المستمرة منذ تسعة أشهر.
الخلاصة: العالم بأسره يترقب نتائج الانتخابات الأمريكية وتداعياتها الكبرى على المشهد الإقليمي. ويبدو أن هذا المسار يكرس استقرارًا مؤقتًا لشخصيتين بارزتين في المنطقة، وهما بنيامين نتنياهو وبشار الأسد، وذلك بانتظار ساعة الحسم التي ستعلن عنها صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأمريكية.